ما بعد الحداثة... وضع وانتقال؟
فريدريك وورمس، أستاذ الفلسفة في جامعة ليل ـــ 111. نشر برغسكون بخاصة. أو معنياً الحياة (دار نشر بوف، 2004).
زمننا اليوم، هو زمن التقاطع والتواصل. انقطاع لم يقع بعد تواصل. إنما هو انقطاع وتواصل معاً. حاضر ثنائي معاً. مكسر ومفتوح معاً.
الجدل، في هذا الانقطاع، في "ما بعد الحداثة" (حوالي سنة 1980). إشارة لهذا الانقطاع، كانت عودة "أوسشويتز" في الوعي الأوروبي، مضيفاً إلى النقد الشديد للعقل، ما يبدو أنه، تماماً، نقد للعقل في الحداثة. إذ بعد أن كسرت "الخطابات الكبيرة" الأخرى. كسرت هي نفسها كخطاب كبير.
هكذا جاء تحليل جان فرانسوا ليوتارد، الحامي الأخلاقي، لهذا "الاختلاف" حتى في اللغة، ينتقد بكل بساطة توفيقية. ورد هابرماس كان، دون أدنى شك، بسيطاً جداً، واضعاً الانقطاع على حساب "عدم اكتمال" (الحداثة). هذا لا يعني أنه أخطأ بالاستعانة بتجديد العقل. "أخلاقيته بالمناقشة" تشهد بذلك. كان يجب، لكي يتجنب النكوص إلى الأسوأ، في الفراغ الذي تركه التقدم، أن يعيد، على الأقل، علائق العقل، العقل العام. لكن لم يعد بإمكاننا، أن ندون ذلك التجديد في تاريخ شامل. لا نتجاوز، في كل الأحوال، ما بعد الحداثة إلى الأمام، ولا إلى الوراء. لا باتجاه "التدين" بأي حال، ولا نحو نبوئية العقل. بل إن ما بعد الحداثة، بمعنى ما، يبقى "وضعنا" تماماً.
ولكن علينا أيضاً، أن نمضي أبعد من ذلك. أن ندرك أن "ما بعد الحداثة". فيما إذا كانت هي، قبل كل شيء، وضعنا. وهي أيضاً، في صياغتها ودلائلها، الانتقال، موسومة بالبرهة القاطعة، في سنوات 1960. من وجهة النظر هذه، فمن المناسب الذهاب أبعد من ذلك، في اتجاهين.
إن "ما بعد الحداثة هي، إذن، وضع وانتقال معاً."
باتجاه الانقطاع، قبل كل شيء، أولاً. ما يشير إليه ما بعد الحداثة، ليس انقطاعاً داخلياً فقط، لكل الخطابات الكبيرة (ذاك المتعلق بالحداثة، كما بذاك المضاد "للحداثة" من جهة أخرى). كلها مكسرة من الداخل. لكنها، إن كانت كذلك، فإنها أكثر عمقاً بانقطاعات، في اللغة: تلك المتعلقة بالتاريخ نفسه. إذ فيما يوحي حاضرنا، بما لا يمكن تلافيه، كعصر سلبي. ويصبح البحث والاحتياط من الشرور المشتركة. "طبيعية" كانت، أم "تاريخية". أو بالأحرى، بيئية وسياسية. تصبح شرطاً مطلقاً، أكثر منه شرط، مبدأ. وحسب تعبير جان بيير دوبوي: "الكارثية النيرة"، ليست ذاكرة، فحسب. بل هي مستقبل تماماً. أو حالة لمستقبل في الحاضر نفسه.
لكن إن تجاوزت الشرور اللغة. وكذلك هي نفسها، إلى العلاقات. فليس فقط العلاقات العقلانية، هي التي تفرّقنا، أو تجمعنا. بل يجب الذهاب بعيداً أكثر، من أجل فهم أعمق للصراعات. بل انفتاحات اليوم، أيضاً. فربما، تكمن مشكلة الحاضر، بإرجاع العلاقات الإنسانية، بكل تعقيداتها، إلى أصلها الحيوي لمنبعها التاريخي.
من وجهة النظر هذه، ربما لم يكن الخلاف حول "ما بعد الحداثة"، إلا الانتقال بين الزمن الفلسفي للستينيات الذي، لم يتميز بنقد جذري، فحسب. وإنما، أيضاً، بأساليب نظرية عميقة، لاسيما ما يتعلق باللغة والوقت الحالي القائم، لا على السلبي فقط. بل أيضاً، على مشكلات جديدة. على سبيل المثال، فيما يخص الحي، على ما يحصل معنا أن نطرحه.
ما بعد الحداثة هي، إذن، وضع وانتقال معاً. وضع، لأننا لن نتجاوز هذه الحداثة المكسرة. بل المفجرة. وانتقال لأنه لا يرسم، بها وحدها، نهاية التاريخ، ولكن مسألة الحاضر.
مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العددان 423 تموز 2006
الإنترنت:
http://www.awu-dam.org/mokifadaby/423/mokf423-044.htm
Bookmarks